في صميم مجتمعاتنا، يكمن كنز لا يُقدّر بثمن، يتمثل في طاقات وكفاءات جيل من الشباب المتعلم، الذين أمضوا سنوات عمرهم في دروب العلم، مدفوعين بوعد ضمني ورسمي بمستقبل يضيئه العمل والاستقرار، اليوم، هذا الكنز مهدد بالضياع، وتحوّلت الشهادات الجامعية التي بذلوا في سبيلها الغالي والنفيس، إلى مجرد وثائق جامدة تُركن في الأدراج، بينما تتبدد أحلامهم في مهب ريح البطالة القاسية.
إن المشهد الحالي لا يقتصر على كونه أزمة اقتصادية وحسب، بل هو جرح ينزف في جسد المجتمع،فبينما يرتفع عدد خريجي الجامعات والمعاهد سنوياً، تظل فرص العمل المتاحة في القطاع العام والخاص ضئيلة، لا تتناسب مع حجم العرض الهائل من الكفاءات.
إن بطالة الشباب المتعلم هي أخطر أنواع البطالة؛ لأنها تُشكل إهداراً مضاعفاً: إهداراً لرأس المال البشري المدرب، وإهداراً للموارد التي استُثمرت في تعليمهم،والأشد مرارة هو شعور هذا الجيل بالخذلان، خاصة عندما يقابلهم الصمت أو التسويف من قبل الجهات الحكومية التي لطالما تغنّت بـ « دور الشباب » و « بناء المستقبل ».
لقد بنت أعداد كبيرة من الشباب آمالها على وعود حكومية صريحة بتوفير وظائف، أو على الأقل بخلق بيئة اقتصادية محفزة لاستيعابهم،لكن عدم الالتزام بهذه الوعود ترك آثاراً عميقة ومدمرة:الإحباط النفسي والاجتماعي: تحوّل التفاؤل إلى إحباط عميق، مما يهدد الصحة النفسية للشباب ويدفع بعضهم إلى العزلة أو حتى السلوكيات السلبية،تأخر سن الزواج وتفكك اجتماعي: يعيق انعدام الدخل والاستقرار المادي الشباب عن تشكيل أُسر، مما يؤثر على النسيج الاجتماعي للمجتمع بأكمله،هجرة العقول والكفاءات: يدفع اليأس الكثيرين إلى البحث عن فرص عمل خارج الوطن، مُهدِرين بذلك سنوات التعليم والخبرة لصالح اقتصادات أخرى،هذا النزيف يضعف القدرة التنافسية للبلاد ويُعرقل مسيرتها التنموية،فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها: يتزعزع عماد الثقة بين المواطن (الشاب المتعلم) وبين الدولة، عندما يجد أن وعودها ليست سوى حبر على ورق، مما يفتح الباب أمام التوتر الاجتماعي وعدم الاستقرار.
إن هذا التقرير ليس مجرد تحليل أرقام، بل هو صرخة من قلب جيل يرى مستقبله يُسرق منه،إنهم لا يطالبون بصدقة، بل يطالبون بحقهم في العمل، الذي هو جوهر كرامتهم ومشاركتهم الفعالة في بناء الوطن.
السؤال متى سنستمر في دفع شبابنا إلى حافة اليأس؟ إن معالجة أزمة بطالة المتعلمين لا تحتمل التأجيل، وتتطلب قرارات جذرية وشجاعة، تشمل:إصلاحات هيكلية في سوق العمل لجعله أكثر مرونة وقدرة على خلق الوظائف في القطاع الخاص، بدلاً من الاعتماد المُفرط على التوظيف الحكومي،مواءمة مخرجات التعليم مع احتياجات السوق الفعلية، والتركيز على المهارات الريادية والمهنية المطلوبة عالمياً،تفعيل جدّي لبرامج دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتمكين الشباب من أن يصبحوا رواد أعمال لا مجرد باحثين عن وظائف.
الشفافية الكاملة والالتزام الصادق بالوعود، وإدراك أن كل شهادة مُعطلة هي قنبلة موقوتة تهدد التنمية والاستقرار.
إن استثمار الأموال في بناء الطرق والجسور مهم، لكن الاستثمار في بناء الإنسان وتوظيف طاقاته هو الأهم، فشباب اليوم هم قادة الغد، وإذا لم نفتح لهم أبواب العمل، فسنفتح على بلادنا أبواباً من التحديات لا تُحمد عقباها، الكرامة الوطنية تبدأ بتوفير عمل كريم لكل يد مؤهلة وعقل متوقد.
شهادات في الأدراج وأحلام في مهب الريح#أزمة الشباب المتعلم والوعد الحكومي الذي تبخّر#بقلم:حمزة باكو علي إعلامي وكاتب صحفي
Articles liés




